يوسف إدريس علي كاتب قصصي ومسرحي وروائي مصري، ولد في 19 مايو عام 1927 ميلاديا بقرية تسمى “البيروم” وكانت تابعة لمركز يسمى “فاقوس” بمحافظة الشرقية بمصر، وتوفي في 1 أغسطس عام 1991 ميلاديا بعد عمر دام 64 عاما، لقد درس الطب بجامعة القاهرة وتخرج في عام 1947 ميلاديا، تخصص في مجال الطب النفسي بعام 1950 ميلاديا، حصل على جوائز عديدة، منها:
- وسام الجزائر عام 1961 ميلاديا.
- مرتين على وسام الجمهورية بعام 1963 ميلاديا وبعام 1967.
- وأيضا وسام العلوم والفنون الذي يكون من الدرجة الأولى وقد حصل عليه بعام 1980 ميلاديا.
من قصص قصيرة ليوسف إدريس:
لقد كتب الروائي “يوسف إدريس” العديد من القصص القصيرة وقد تميز عن غيره في ذلك المجال وله روائع عدة ومنها:
أولا/ القصة القصيرة “نظرة”:
بيوم من الأيام كان الكاتب مارا بأحد الشوارع فرأى طفلة صغيرة تحمل فوق رأسها صينية بطاطس وصاجا مملوءاً بالفطائر المخبوزة، وكاد الحمل من على رأسها ينزلق فسألت الكاتب دون علم منها به أن يساعدها في تثبيت الحمل وأن تجعله متزنا لأجلها فهم الكاتب بمساعدتها دون تردد منه، وحاول جاهدا أن يجعل الصينية والصاج متزنتين فوق رأس الطفلة المسكينة البائسة، يبدو على ملامحها كونها خادمة من ملابسها القديمة وجسمها النحيف، ومازالت الفتاة في طريق عودتها إلى منزل أسيادها وتحمل ثقلا فوق رأسها ولم تأبه من شدة خوفها لنصيحة الكاتب بالرجوع إلى الفن من جديد لاسترجاع صينية البطاطس أو صاج الفطائر والعودة مرة أخرى لأخذه رغبه في تخفيف الحمل عليها.
حلم بعيد:
وبالرغم من مغادرة الطفلة المكان الذي يقف به الكاتب إلا أن الكاتب سار خلها ووضع عينه عليها متابعة لها وخوفا على سلامتها إذ أنها ستعبر طريقا مليئا بالسيارات، ومازال الكاتب يمشي خلفها إلى أن توقفت الطفلة فظن الكاتب أنها تحتاج مساعدة ما، ولكنها توقفت فجأة لتشاهد الأطفال الصغار الذين من سن عمرها أو يزيدون عليها قليلا، لقد رأى الكاتب الحلم في عينيها ولكنها لم تمكث إلا قليل واستكملت مسيرتها.
نص القصة القصيرة “نظرة”:
كان غريبا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانا كبيرا مثلي لا تعرفه، في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله، وكان ما تحمله معقدًا حقاً ففوق رأسها تستقر “صينية بطاطس بالفرن”. وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض، قد انزلق رغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه حتى أصبح ما تحمله كله مهددا بالسقوط .
ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل وتلمست سبلا كثيرة، وأنا أسوي الصينية فيميل الحوض، وأعدل من وضع الصاج فتميل الصينية، ثم أضبطهما معا فيميل رأسها هي. ولكنني نجحت أخيراً في تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريبا حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه . لست أدري ما دار في رأسها فما كنت أرى لها رأسا وقد حجبه الحمل . كل ما حدث أنها انتظرت قليلا لتتأكد من قبضتها ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا كلمة “ستي” .
ولم أحول عيني عنها وهي تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات، ولا عن ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي ينظف بها الفرن، أو حتى عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين .
وراقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض، وتهتز وهي تتحرك ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها وتخطو خطوات ثابتة قليلة وقد تتمايل بعض الشيء ولكنها سرعان ما تستأنف المضي . راقبتها طويلا حتى امتصتني كل دقيقة من حركاتها فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة .
أخيرا استطاعت الخادمة الطفلة أن تخترق الشارع المزدحم، في بطء كحكمة الكبار . واستأنفت سيرها على الجانب الآخر وقبل أن تختفي شاهدتها تتوقف ولا تتحرك . وكادت عربة تدهمني، وأنا أسرع لإنقاذها، وحين وصلت كان كل شيء على ما يرام والحوض والصينية في أتم اعتدال أما هي فكانت واقفة في ثبات تتفرج، ووجهها المنكمش الأسمر يتابع كرة المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون .
ولم تلحظني، ولم تتوقف كثيرا فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها وقبل أن تنحرف استدارت على مهل واستدار الحمل معها، وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة ثم ابتلعتها الحارة.
ثانيا/ القصة القصيرة “المرتبة المقعرة”:
يقص الكاتب حكاية رجل قرر الابتعاد بنفسه عن عالمه الموحش والمليء بالفساد، وأن ينام على مرتبته في حين يسأل زوجته من وقت للآخر عن وجود أي تغير بالأحوال، ولكن بكل مرة لم يجد تغيرا ولا غيره فينام مجددا، فنام أسبوعا في شهرا في عاما في خمسة أعوام وهكذا حتى صار جسده جزءا من تلك المرتبة، ومازال الرجل يبحث عن وجود أي تغيير بالدنيا من حوله حتى وافته منيته، فيجب علينا جميعا ألا نقف مكفوفي الأيدي ونغير دنيانا بأيدينا لا ننتظر من يغيرها لنا، ولا نشاهد العالم من حولنا بنصف عين بل ننجرف معه في كافة أحداثه ونسايره، فالعالم لا يعترف بمن لا يضع بصمة خاصة به فيه، فدائما ما ينبغي علينا العمل والحرص على التفاني فيه، فأعمارنا نسأل ونحاسب عليها أمام الله لذلك يجب أن نجعلها عمرة بما ينفعنا في الآخرة.
نص قصة “المرتبة المقعرة”:
في ليلة ‘الدخلة’ و’المرتبة’ جديدة وعالية ومنفوشة، رقد فوقها بجسده الفارع الضخم، واستراح إلي نعومتها وفخامتها، وقال لزوجته التي كانت واقفة إذ ذاك بجوار النافذة:انظري.. هل تغيرت الدنيا؟
ونظرت الزوجة من النافذة ثم قالت : لا.. لم تتغير.
فلأنم يوما إذن .
ونام أسبوعا، وحين صحا كان جسده قد غور قليلا في المرتبة . فرمق زوجته وقال : انظري.. هل تغيرت الدنيا؟
فنظرت الزوجة من النافذة ثم قالت : لا.. لم تتغير .
فلأنم أسبوعا إذن .
ونام عاما، وحين صحا كانت الحفرة التي حفرها جسده في المرتبة قد عمقت أكثر، فقال لزوجته : انظري.. هل تغيرت الدنيا؟
فنظرت الزوجة من النافذة ثم قالت : لا.. لم تتغير .
فلأنم شهرا إذن .
ونام خمس سنوات، وحين صحا كان جسده قد غور في المرتبة أكثر، وقال كالعادة لزوجته : انظري.. هل تغيرت الدنيا؟
فنظرت الزوجة من النافذة ثم قالت : لا.. لم تتغير .
فلأنم عاما إذن .
ونام عشرة أعوام، كانت المرتبة قد صنعت لجسده أخدودا عميقا، وكان قد مات وسحبوا الملاءة فوقه فاستوي سطحها بلا أي انبعاج، وحملوه بالمرتبة التي تحولت إلي لحد وألقوه من النافذة إلي أرض الشارع الصلبة . حينذاك وبعد أن شاهدت سقوط المرتبة اللحد حتى مستقرها الأخير، نظرت الزوجة من النافذة وأدارت بصرها في الفضاء وقالت :يا إلهي! لقد تغيرت الدنيا.