أحيانًا لكي تشعر بقيمة الشيء لابد أن تحرم منه ، لكي تقدر ما لديك تفقده ، أحيانًا يأخذ منا القدر أعز ما نملك ، يحرمنا من أكثر ما نحب ولكنه يعود من جديد ليكفكف دموعنا ويمنحنا فرصة أخرى للسعادة ، فرصة أخرى للحياة …
قصة مفاجآت القدر
بدأت القصة منذ 17 عامًا ، حين توفيت والدتها وتركتها وحيدة في الخامسة من عمرها، تزوج والدها بعد عام واحد ، زوجته الجديدة هي قريبته التي فضل والدتي عليها قديمًا ، كانت تكرهني بسبب والدتي ، لم أفعل لها أي شئ ، كنت أحرص أن أبدو مهذبة وأستمع إلى ما تقول حتى دون نقاش .
لكن للأسف رغم كل محاولاتي لم استطع أن أغير مشاعرها تجاهي ، لم أستطع أن أسرق منها كلمة جيدة ، أو حتى ابتسامة رضا ، الحق يقال لم تعنفني يومًا ولم تتعدى علي بالقول أو الفعل ، ولكنها كانت تحمل دائمًا سلاح التجاهل ، تتجاهلني تمامًا ، لا تتحدث إلي ، لا توجه إلي كلمة واحدة حتى ، كنت أشعر بأنني منعزلة تمامًا ، لا أحد لي ، خاصة أن عمل والدي كان يقتضي أن يغيب 5 أيام في الأسبوع ويعود في اليوم السادس والسابع ، وبالطبع كانت حصة الأسد من وقته تذهب إلى زوجته الجديدة .
أشهد أنها كانت تحاول إرضاءه كرجل بكل الطرق ، ولكنها كانت تتعامل معي مثلما تتعامل مع أي شئ أخر من ديكورات المنزل ، والذي بالمناسبة بدأت تغييره على مراحل ، حتى أزالت أي أثر لوالدتي في المنزل ، مع كل غرض كانت تغيره كنت أشعر أنني أفقد صلتي مع والدتي ، كنت أشعر أنني أفقد مصادر الأمان والاطمئنان بالنسبة لي .
بعد عامين من الزواج وحين كنت في الثامنة من عمري حدثت تغيرات كثيرة ، فقد أنجبت زوجة أبي طفلها الأول والذي سحر لب والدي وأفقده هو أيضًا أي تواصل معي ، صار التجاهل يأتي من أبي وزوجته هذه المرة ، ومن كل زائر يأتي إلى منزلنا ، أشعر وكأني طيف وكأن لا لون لي ولا أثر ، كان الشيء الوحيد الذي يخفف حدة ألمي هي زيارتي الأسبوعية لمنزل جدتي ومحاولات خالتي المستمرة الترفيه عني ومساعدتي في الدراسة .
ولكن على الرغم من كل شئ كانت حالتي النفسية في غاية السوء ، وبدأتي علاماتي الدراسية في التراجع ، وبدأت أصاب بنوبات فزع في أثناء اليوم الدراسي وحتى أثناء نومي .
لحسن الحظ لم تتحمل زوجة أبي ما يحدث وطلبت من أبي أن يتصرف ، أن يرسلني إلى جدتي لكي أعيش معها ، فاتحني أبي في المسألة على استحياء ، وافقت ، كنت حزينة لأن أبي تخلى عني بهذه السهولة ، ولكن في نفس الوقت كنت أشعر بالسعادة لأنني سأحيا في منزل جدتي الذي أصبح هو ملاذي الآمن .
مرت الأعوام في منزل جدتي ، تزوجت خالتي ، أنجبت 3 أولاد صاروا أخوة لي ، أو يمكن أن أقول أنهم كانوا أول من أشعر معهم بالأمومة ، كانت سنواتي سعيدة للغاية ، لا أنكر أنني كنت أفتقد أبي من وقت لأخر ولكن كان يلهيني اهتمام جدتي وأحاديثها الممتعة ، أو زيارات خالتي وأطفالها الأحباء .
تخرجت من الثانوية العامة بمجموع كبير والتحقت بكلية الحقوق فرع اللغة الإنجليزية ، كنت أحب دراستي كثيرًا ، في العام الثالث للجامعة حدثت الفاجعة الكبرى ، حين توفيت جدتي ، شعرت بأن القدر يصفعني من جديد ، عادت إلى نوبات الفزع وعادت إلى كل ذكرياتي السلبية في منزل والدي ، لم ينقذني منها مرة أخرى إلا زيارات خالتي في منزل الجدة الذي أصبح حزينًا هو أيضًا على فراق جدتي .
حاولت خالتي أكثر من مرة أن تقنعني أن أذهب للعيش معها ، لكنني كنت أرفض ، كنت متمسكة بمنزل جدتي ، كان المكان الوحيد الذي أشعر فيه بالأمان والدفء .
وفاة جدتي كانت أحد الأسباب التي جعلت أبي وأخوتي يزوروني لأول مرة منذ أعوام كثيرة ، عرفت أنه رزق بولدين غيري ، أخبرني أنه يفتقدني كثيرًا ، كنت أتمني أن يكون صادقًا ، ولكني كنت أعلم أنه يكذب ، فالأب الذي يشتاق لابنته لا يتركها كل هذه الأعوام دون أن ينظر في وجهها ، أو يرسل لها ما يساعدها على الحياة ، كنت أحمد الله أن جدتي لم تكن تحتاج منه أي مساعدة مادية للتكفل بي .
بعد أسبوع واحد أتت خالتي لزيارتي ومعها زوجها ، وقد بدا عليهم الحزن والجدية ، أنا أيضًا بعد هذه الزيارة شعرت بالحزن والغضب ، فقد أخبرتني خالتي أن أبي يطالبها رسميًا بنصيبي في ميراث والدتي بعد وفاة جدتي لأنني قاصر وهو المسؤول قانونًا عني .
جن جنوني شعرت بنار تحرق قلبي ، على الرغم من أنني كنت أعلم أنه يكذب حين أخبرني أنه يشتاق إلي إلا أن ما سمعته أحرقني ، أحرق بداخلي كل ذرة حب أو التماس للعذر له .
بعد يومين تقريبًا اجتمعت خالتي وأبي و شقيق جدتي في منزلي – منزل جدتي – وكان معهم رجل لم أعرفه ، عرفت فيما بعد أنه المحامي الذي يحمل وصية جدتي ، صدم أبي حين علم أن الميراث كله من جدتي ذهب إلى خالتي ، مع توصية لها أن تنقل نصف التركة لي بعد أن أتم عامي الحادي والعشرين ، وأن تتولي خالتي الإنفاق علي أثناء أعوام دراستي ، وأن تساعدني في تجهيزات زواجي فيما بعد .
علمت أن كل هذا كان هدفه حمايتي من والدي ، أمتعض أبي وتغير وجهه وهم يغادر المنزل وهو يشعر بغضب شديد ، لم أودعه ولم أطلب منه أن يبقي ، فقد كانت دموعي تتساقط على جدتي التي أعطتني الأمان في حياتها وبعد وفاتها .
أنهيت أعوام دراستي وتمكنت من الحصول على تقدير جيد جدا في سنواتي الأربع ، كنت أتمني أن أكون معيدة في الجامعة ولكن للأسف سبقني إلى هذا المنصب أحد الزملاء الذي تمكن من تحقيق معدل تراكمي يرتفع عني نصف في المئة ..
لحسن حظي أن أحد الأساتذة كان يشعر أنني جيدة كفاية ليرشحني إلى أحد رجال الأعمال من معارفه ليتم تعييني بعد أسبوعين فقط من التخرج في قسم الشؤون القانونية في أحد شركات الاستيراد والتصدير العملاقة .
كان العمل ممتع ومريح بالنسبة لي ، كنت أقضي أغلب ساعات اليوم في العمل ، لا أشعر بالإرهاق ولا أشعر بأي مشكلة ، المشكلة الحقيقة بدأت تظهر بعد شهر واحد من عملي ، حين عاد أبن صاحب الشركة ونائب المدير إلى مصر من جديد ليتولى مهام منصبه بعد أن أنتهي من مناقشة رسالة الماجستير في أحد الجامعات الكبرى في الولايات المتحدة.
بدأ العمل وبدأت معه المتاعب ، كان يتعامل بتعالي مع الجميع ، يأمر وينهي كأنه إله يجب أن يطيعه كل الموجودين ، في أحد الاجتماعات مع القسم الذي أعمل به ، وحين كنا نتبادل الأفكار حول أحد المشكلات في العمل ، هاجمني بشدة حين ناقشته في أحد الأفكار التي قالها وأثبت خطاءه أمام الجميع ، حاولت أن أتماسك وأن أكون هادئة ، استكملت نقاشي معه ، وكما توقعت رفض أن يعترف أن فكرته خاطئة ، على الرغم من أن جميع الحضور اقتنعوا بما قلته أنا .
أنتهي الاجتماع وتوجهت إلى مكتبي على الفور ، تماسكت حتى نهاية اليوم ، وحين أنتهي يوم العمل ، توجهت مباشرة إلى سيارتي وجلست فيها أبكي دون توقف ، حتى سمعت طرقات على زجاج سيارتي ، كان هو يقف أمامي بابتسامة تشفي ، وكأنه يخبرني أنه هزمني ، تحركت على الفور .
تغيبت في اليوم التالي عن العمل لكي أنسى ما فعله وأعود من جديد إلى نفسي ، تكررت المواقف بيننا ، وكثرت الخلافات ومحاولات كل طرف فينا أن يثبت أن الطرف الأخر على خطأ .
على الرغم من شعوري أنه سخيف وسئ وأريد طوال الوقت أن ألطمه على وجهه إلا أن هناك شيئًا ما بداخلي بدأ يفتقده حين يغيب ، أو تتباعد المدد بين الاجتماعات مع قسمنا . غضبت وفرحت كثيرًا حين جاء لي قرار رسمي بانتهاء عقدي في قسم الشؤون القانونية ونقلي إلى المكتب الاستشاري الخاص به .
فمن ناحية صرت أقرب له وبإمكاني رؤيته كل يوم ومن الناحية الأخرى أقسم أنني كنت أود أن أركله لأنني شعرت أنه يحاول أن يكسرني أمامه ، أن يكون هو مديري المباشر ، كنت أشعر بالضيق كل يوم ، فقد غيرت مكتبي الذي أحبه ، وها أنا أجلس وسط 3 موظفين أصغرهم يكبرني بحوالي 15 عام ، لا تواصل بيننا ، ولا تقارب في الأفكار ، ولا أحاديث مشتركة ، وعلاوة على هذا مدير سئ ومغرور .
مرت الأيام وزادت مشاعر الفقد في غيابه والغضب بالقرب منه ، في أحد الأيام استدعاني إلى مكتبه لكي يناقش معي مسألة مهمة ولكن الأمور احتدمت حين هاجمني ولمح أني لست ذكية كفاية ، نهضت ونهرته ، صرخت في وجهه ، حتى أنني كدت أسمع همهمات الموظفين من خلف الباب يريدون معرفة ما يحدث في الداخل .
أقترب مني ، وضع يده على فمي وباليد الأخرى قربني منه واحتضنني ، على الرغم من غضبي إلا أن هذا الشعور بالقرب منه كان حميمًا ودافئًا بدرجة لم أتصورها ، صمت رهيب خيم على كلينا ، رفع يده عن فمي وطوقني بكلتا يديه ، كنت مستسلمة تمامًا له وكأنني مسحورة ، لكن تكاد دقات قلبي أن تكون مسموعة ، همس في أذني ” أنتي غبية ” لم أكد أرد عليه ، أصرخ فيه مرة أخرى أو أبعده عني حتي أستكمل ” ألم تشعري بحبي حتى الآن ؟ ” يتبع …