اليوم بمشيئة الله نستكمل قصص الأبطال الأبرار الأخيار وستعرض معكم قصة بطل آخر مشتملة على أهم الأحداث فى حياته الذى دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ( اللهم اجعل له آية تعينه على ما ينوى من الخير ) مع قصة الصحابى الطفيل بن عمرو الدوسى .
الطفيل بن عمرو الدوسى سيد قبيلة ( دوس ) فى الجاهلية وشريف من أشراف العرب المرموقين وواحد من أصحاب المروءات المعدودين لا تنزل له قدر عن نار ولا يوصد له باب أمام طارق يطعم الجائع ويؤمن الخائف ويجير المستجير وهو إلى ذلك أديب أريب لبيب وشاعر مرهف الحس رقيق الشعور بصير بحلو البيان ومره حيث تفعل فيه الكلمة فعل السحر .
غادر الطفيل منازل قومه فى ( تهامة ) متوجها إلى مكة ووحى الصرا دائرة بين الرسول الكريم صلوات الله عليه وكفار قريش كل يريد أن يكسب لنفسه الأنصار ويجتذب لحزبه الأعوان فالرسول صلوات الله وسلامه عليه يدعو لربه ويلاحه الإيمان والحق وكفار قريش يقاومون دعوته بكل سلاح ويصدون الناس عنه بكل وسيلة ووجد الطفيل نفسه يدخل فى هذه المعركة على غير أهبة ويخوض غمارها من غير قصد .
فهو لم يقدم إلى مكة لهذا الغرض ولا خطر له أمر محمد وقريش قبل ذلك على بال ومن هنا كان للطفيل بن عمرو الدوسى مع هذا الصراع حكاية لا تنسى فلتسمع إليها فإنها من غرائب القصص .
حدث الطفيل قال : قدمت مكة فما إن رآنى سادة قريش حتى أقبلوا على فرحبوا بى أكرم ترحيب وأنزلونى فيهم أعز منزل ثم اجتمع إليا سادتهم وكبراؤهم وقالوا : يا طفيل إنك قد قدمت بلادنا وهذا الرجل الذى يزعم أنه نبى قد أفسد أمرنا ومزق شملنا وشتت جماعتنا ونحن إنما نخشى أن يحل بك وبزعامتك فى قومك ما قد حل بنا فلا تكلم الرجل ولا تسمعن منه شيئا فإن له قولا كالسحر : يفرق بين الولد وأبيه وبين الأخ وأخيه وبين الزوجة وزوجها .
قال الطفيل : فالله ما زالوا بى يقصون على من غرائب أخباره ويخوفونى على نفسى وقومى بعجائب أفعاله حتى أجمعت أمرى ألا أقترب منه وألا أكلمه أو أسمع منه شيئا .
ولما غدوت إلى المسجد للطواف بالكعبة والتبرك بأصنامها التى كنا إليها نحج وإياها نعظم حشوت فى أذنى قطنا خوفا من أن يلامس سمعى شىء من قول محمد .
لكن ما إن دخلت المسجد إلا وجدته قائما يصلى عند الكعبة صلاة غير صلاتنا ويتعبد عبادة غير عبادتنا فأسرنى منظره وهزتنى عبادته ووجدت نفسى أدنو منه شيئا فشيئا على غير قصد منى حتى أصبحت قريبا منه وأبى الله إلا أن يصل إلى سمعى بعض مما يقول فسمعت كلاما حسنا .
وقلت فى نفسى : ثكلتك أمك يا طفيل إنك لرجل لبيب شاعر وما يخفى عليك الحسن من القبيح فما يمنعك أن تسمع من الرجل ما يقول فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلته وإن كان قبيحا تركته ثم قال : ثم مكثت حتى انصرف رسول الله إلى بيته فتبعته حتى إذا دخل داره دخلت عليه .
فقلت : يا محمد إن قومك قد قالوا لى عنك كذا وكذا فوالله ما برحوا يخوفونى من أمرك حتى سددت أذنى بقطن لئلا أسمع قولك ثم أبى الله إلا أن يسمعنى شيئا منه فوجدته حسنا فاعرض على أمرك فعرض على أمره وقرا لى سورة الإخلاص والفلق فوالله ما سمعت قولا أحسن من قوله ولا رأيت أمرا أعدل من أمره عند ذلك بسطت يدى له ، وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ودخلت الإسلام .
قال الطفيل : ثم أقمت فى مكة زمنا تعلمت فيه تعاليم الإسلام وحفظت فيه ما تيسر من القرآن ولما عزمت العودة إلى قومى قلت : يا رسول الله إنى امرؤ مطاع فى عشيرتى وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لى آية تكون لى عونا فيما أدعوهم إليه ، فقال : ( اللهم اجعل له آية ) .
فخرجت إلى قومى حتى إذا كنت فى موضع مشرف على منازلهم وقع نور فيما بين عينى مثل المصباح فقلت : اللهم اجعله فى غير وجهى فإنى أخشى أن يظنوا أنها عقوبة وقعت فى وجهى لمفارقة دينهم فتحول النور فوق رأس سوطى فجعل الناس يتراءون ذلك النور فى سوطى كالقنديل المعلق وأنا أهبط إليهم من الثنية .
فلما نزلت أتانى أبى وكان شيخا كبيرا ، فقلت : إليك عنى يا أبت فلست منك ولست منى ، قال : ولم يا بنى ! قلت : لقد أسلمت واتبعت دين محمد قال : أى بنى دينى دينك فقلت : اذهب واغتسل وطهر ثيابك ثم تعال حتى أعلمك ما علمت فذهب واغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم .
ثم جائت زوجتى فقلت : إليك عنى فلست منك ولست منى ، قالت : ولم ! بأبى أنت وأمى ، فقلت : فرق بيتى وبينك الإسلام فقد أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم ، قالت : فدينى دينك ، قلت : فاذهبى فتطهرى من ماء ( ذى الشرى ) فقالت : بأبى أنت وأمى أتخشى على الصبية شيئا من ( ذى الشرى ) فقلت : تبا لك ولذى الشرى قلت لك : اذهبى واغتسلى هناك بعيدا عن الناس وأنا ضامن لك ألا يفعل هذا الحجر الأصم شيئا ، فذهبت فاغتسلت ، فعرضت عليها الإسلام فأسلمت .
ثم دعوت ( دوسا ) فأبطئوا على إلا أبا هريرة فقد كان أسرع الناس إسلاما ، قال الطفيل : فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ومعى أبو هريرة ، فقال لى النبى عليه الصلاة والسلام : ( ما ورائك يا طفيل ) فقلت : قلوب عليها أكنة وكفر شديد لقد غلب على دوس الفسوق والعصيان .
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ وصلى ورفع يده إلى السماء ، قال أبو هريرة : فلما رأيته كذلك خفت أن يدعوا على قومى فيهلكوا فقلت : وا قوماه ، لكن الرسول صلوات الله عليه جعل يقول : ( اللهم اهد دوسا اللهم اهد دوسا اللهم اهد دوسا ) ثم التفت إلى الطفيل وقال : ( ارجع إلى قومك وارفق بهم وادعهم إلى الإسلام ) .
قال الطفيل : فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضت بدر وأحد والخندق فقدمت على النبى ومعى ثمانون بيتا من دوس قد أسلموا وحسن إسلامهم فسر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسهم لنا مع المسلمين من غنائم خيبر فقلنا : يارسول الله : اجعلنا ميمنتك فى كل غزوة تغزوها واجعل شعارنا مبرور .
قال الطفيل : ثم لم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة ، فقلت : يارسول الله ابعثنى إلى ( ذى الكفين ) صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه فأذن له النبى عليه الصلاة والسلام ، فسار إلى الصنم فى سرية من قومه فلما بلغه وهم بإحراقه اجتمع حوله النساء والرجال والأطفال يتربصون به الشر وينتظرون أن تصعقه صاعقة إن هو نال ( ذا الكفين ) بضر لكن الطفيل أقبل على الصنم على مشهد من عباده وجعل يضرم النار فى فؤاده .
وهو يرتجز : يا ذا الكفين لست من عبادكا .: ميلادنا أقدم من ميلادك .: إنى حشوت النار فى فؤادكا
وما إن التهمت النار الصنم حتى التهمت معها ما تبقى من الشرك فى قبيلة دوس فأسلم القوم جميعا وحسن إسلامهم ، ظل الطفيل بن عمرو الدوسى بعد ذلك ملازما لرسول الله صلوات الله عليه حتى قبض النبى إلى جوار ربه ، ولما آلت الخلافة من بعده إلى صاحبه الصديق وضع الطفيل نفسه وسيفه وولده فى طاعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولما نشبت حروب الردة نفر الطفيل فى طليعة جيش المسلمين لحرب مسيلمة الكذاب ومعه ابنه عمرو وفيما هو فى طريقه إلى اليمامة رأى رؤيا فقال لأصحابه إنى رأيت رؤيا فعبروها لى ، فقالوا : وما رأيت ؟ قال : رأيت أن رأسى قد حلق وأن طائرا خرج من فمى وأن امرأة أدخلتنى فى بطنها ، وأن ابنى عمرا جعل يطلبنى حثيثا لكنه حيل بينى وبينه .
فقالوا : خيرا ، فقال : أما أنا والله لقد أولتها ، أما حلق رأسى فذلك أنه يقطع ، وأما الطائر الذى خرج من فمى فهو روحى وأما المرأة التى أدخلتنى فى بطنها فهى الأرض تحفر لى فأدفن فى جوفها وإنى لأرجو أن أقتل شهيدا ، وأما طلب ابنى لى فهو يعنى أنه يطلب الشهادة التى سأحظى بها إذا أذن الله لكنه يدركها فيما بعد .
وفى معركة اليمامة أبلى الصحابى الجليل الطفيل بن عمرو الدوسى أعظم البلاء حتى خر صريعا شهيدا على أرض المعركة وأما ابنه عمرو فما زال يقاتل حتى أثخنته الجراح وقطعت كفه اليمنى فعاد إلى المدينة مخلفا على أرض اليمامة أباه أباه ويده .
وفى خلافة عمر بن الخطاب ، دخل عليه عمرو بن الطفيل فأتى للفاروق بطعام والناس جلوس عنده فدعا القوم إلى طعامه فتنحى عمرو عنه ، فقال له الفاروق : ما لك ! لعلك تأخرت عن الطعام خجلا من يدك ، قال : أجل يا أمير المؤمنين ، قال : والله لا أذوق هذا الطعام حتى تخلطه بيدك المقطوعة ، والله ما فى القوم أحد بعضه فى الجنة إلا أنت يقصد بذلك يده .
ظل حلم الشهادة يلوح لعمرو منذ فارقه أباه فلما كانت معركة اليرموك بادر إليها عمرو مع المبادرين وما زال يقاتل حتى أدرك الشهادة التى مناه بها أبوه .
رحم الله الطفيل بن عمرو الدوسى فهو الشهيد أبو الشهيد .
جزاكم الله خيراً وبارك فيكم جميعا