إن من أجمل الأخلاق وأسماها خلق الإيثار، فهو يدعو إلى ترفع النفس البشرية عن حب الذات بحب الآخرين والشعور بهم وبحاجاتهم؛ لقد كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلق صحابته من بعده، فما أجمله من خلق رفيع سامي؟!
قصة إيثار الأصدقاء:
بإحدى القرى الإسلامية قديما وبشهر رمضان المعظم، كانت هناك عائلة “حسان” الذي كان يعمل بصيد الأسماك، لقد كان حاله المادي متعسرا، إذ كان يذهب إلى عمله يوميا جادا ومجتهدا ولكن الأرزاق بيد الله وحده؛ لقد كانت بضعة أيام قليلات ويحل العيد على الأمة الإسلامية وحسان لا يملك المال ولا حتى درهما واحدا من أجل نفقات العيد، فظهرت على ملامحه علامات الحزن الدفين إذ أنه لا يستطيع توفير ما يحتاج إليه أبناؤه وزوجته بهذا اليوم المبارك.
فكرة لتفادي الأزمة:
ففكر حسان في الاقتراض من أعز أصدقائه “فضل” الذي كان يعمل بالزراعة، وبالفعل بعد الإفطار مباشرة ذهب حسان إلى صديقه يطلب منه مبلغا من المال بقيمة ثلاثون درهما بشرط إن توفرت لديه على أن يسددها له بعد العيد؛ فما كان من فضل الصديق الصادق الوفي من آثر صديقه على نفسه وأبنائه وزوجته إلا أن أعطاه آخر ثلاثون درهما تبقت معه رغبة في تلبية طلب صديقه.
موقف عائلة فضل:
تعجبت زوجته من فعلته وأخبرته بأن هذا المال هو كل ما يملكون وأن العيد قادم إليهم بعد عدة أيام، فأخبر فضل زوجته وأبنائه عن مدى جزاء الاقتداء بالسير على نهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤثر غيره على نفسه، وذكر زوجته بضرورة الاقتداء بأمهات المؤمنين إذ قالت السيدة عائشة رضوان الله عليها: “ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز حتى مضى لسبيله، ولو شئنا لشبعنا ولكنا كنا نؤثر على أنفسنا”؛ وواصل حديثه الشيق بحكاية من أجمل الحكايات التي روت صفة الإيثار.
حكاية فريدة عن الإيثار:
مرض أبناء سيدنا علي كرم الله وجهه، فنذر لله صوم ثلاثة أيام إن شفاهم الله سبحانه وتعالى بفضله؛ ولما شفيا الولدان صام كل من في البيت حتى الجارية، وكان بالبيت ثلاثة أصمع من الشعير، فقامت السيدة فاطمة رضوان الله عليها بطحن صاعا باليوم الأول وقامت بخبزه، فلما حان موعد الإفطار إذا بالباب مسكين يطلب من فضل الله فآثروه على أنفسهم، ولم يفطروا إلا على الماء؛ وجاء اليوم الثاني فقامت السيدة فاطمة بطحن الصاع الثاني وخبزه للإفطار عليه، وقبيل المغرب بلحظات طرق الباب يتيم جائعا، فأيضا آثروه على أنفسهم وأعطوه كل الخبز رحمة ورأفة به؛ وجاء اليوم الثالث وهم صيام لا يذوقون شيئا إلا الماء، فعمدت السيدة فاطمة إلى الصاع المتبقي من الشعير وطحنته وخبزته للإفطار به، وعندما حانت الفطرة إذا بأسير يدق الباب فما كان منهم إلا أن آثروه على أنفسهم ليقضوا نذيرهم “الصوم لثلاثة أيام” على الماء؛ وضربوا لنا أقوى مثل بالإيثار وقال فيهم رب العباد سبحانه وتعالى: ” إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا، يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا، فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا، وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا”.
طلب ومفاجأة:
بعد صلاة التراويح ذهب فضل إلى صديقه الشيخ “كرم” الذي كان إمام للمسجد ليقترض منه ثلاثون درهما لنفقة العيد، فأجابه الشيخ على الفور وأحضر له كيسا مختوما به الثلاثون درهما المطلوبين، ففوجئ فضل بأن الكيس هو نفسه الذي أعطاه لصديقه حسان، ولما سأل عنه الشيخ أخبره حقيقة أنه اقترض هذا المبلغ من حسان من أجل نفقات العيد؛ فقرر فضل أن يذهبا إلى حسان ويقتسما ثلاثتهم المال؛ لقد انتهج ثلاثتهم بقول الله سبحانه وتعالى: ” وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”؛ فعم الرخاء على كل واحد منهم وأعطاه الله من فضله الواسع جزاءا لأخلاقهم الطيبة ولقلوبهم العمرة بالإيمان والتقوى.