ومازلنا نستكمل قصتنا المثيرة والشيقة والتي تحمل في طياتها الكثير من الأخوة الصادقة في وقت انعدمت فيه الضمائر، وأصبحت القلوب فيه سوداء.
من قصص وعبر لمن يعتبر:
الجـــــــــــــــــزء الثالث والأخير
لقد حقدت عليها، لدرجة أنني تمنيت رحيلها من الحياة، ولكنني لماذا الآن أشعر بالألم الشديد لمجرد التفكير في أنني من الممكن ألا أراها ثانية؟!
مهما فعلت معها لأكفر عن أخطائي وأفعالي الشنيعة لن يكفيها ولن يكفي حقها علي، لماذا تموت الزهرة البيضاء البريئة وأنا أحيا وأنعم بالحياة؟!
من مثلي لا يمكنها الحياة ولا ثانية واحدة، كانت سببا في توبتي توبة نصوحة ورجوعي نادمة لله سبحانه وتعالى راغبة في شفائها، ولكن مما أدهشنا وأبهرنا جميعا أنها رفضت الإجهاض، وقالت والدموع تنسكب على وجنتيها الورديتين: “أأقتل نفسا بريئة من غير ذنب؟!، وأي نفس إنها جزء وأكبر جزء مني، لقد عشت طوال حياتي متمنية ولو لمرة واحد أسمع فيها كلمة أمي”.
كانت تقية نقية بمعنى الكلمة، فور خروجها من المستشفى توسلت زوجها ليرد زوجته الأولى، ابنة عمه وخاصة لكونها يتيمة الأبوين؛ طيلة شهور الحمل كانت مستلقية على السرير، وبالرغم من تعبها الشديد إلا أنها لم تفوت فرضا في صلاتها، كانت دائمة تلاوة القرآن متمسكة بآيات ربها الرحمن: “وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا”.
كانت أغلب الوقت نائمة في السرير، لا تقوى على فعل شيء، كنت ووالدتي نقوم بخدمتها ونوفر قدر الإمكان راحتها، تقربت من الله حتى أنني شرعت في حفظ القرآن، وعاهدت نفسي أنه بقرب ولادتها أكون حفظته كاملا؛ وجاء اليوم المشهور يوم ولادتها، يومها أمسكت بيدي وأخبرتني: “أتتذكرين الأموال التي أعطيتها لوالدتنا، هذه أموال الخاتم الذهبي هدية والدنا، أتتذكريه، لقد بعته وأعطيت أمواله كاملة لوالدتي، لم آخذ أيا من أموال زوجي، والله وحده يشهد على صدقي”، ثقل على كاهلي الحمل، لا أستطيع أن أتحمل أكثر من ذلك، فكم من مرة أسأت فيها الظن بأختي التي لا يوجد بنقائها، وبدأ طاقم الأطباء بتجهيزاتهم للعملية.
لقد قضينا طوال وقت العملية على أعصابنا، وبعد ثلاثة ساعات خرج الطبيب ويبدو على وجهه الأسى والحزن: “لقد فعلنا كل ما بوسعنا، ولكن أمر الله وإرادته نافذة، إنا لله وإنا إليه راجعون”.
لقد توفيت أختي، توفيت وآخر كلماتها كانت ارعي ابني، لا تتخلي عنه مهما رأيتِ من ظروف الحياة، جعلتني أعاهدها أنا ووالدتي على ذلك، توفيت حتى قبل أن تراه بعينيها، كانت قد اختارت له اسما “محمد”.
أول ما تلقيت الخبر من الطبيب سقطت على الأرض، ولم أدري بحالي إلا وأنا مستلقية على سرير بالمستشفى نفسها، وفجأة ظهر طبيب بشوش الوجه مبتسم ابتسامة تعكس صفاء روحه وطيبة قلبه…
الطبيب: “الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى من الصدمة الأولى، وما لنا من أرمنا إلا أن نقول إنا لله وإنا إليه راجعون؛ لا تحملي نفسكِ أكثر من طاقتها، لا تحملي نفسكِ كبد وعناء ما لا تطيقه”.
سألته وكأنني لا أرغب بخبر وفاة أختي: “وهل حقا وبكل صدق أختي فارقت الحياة؟!”
الطبيب: “ننظر للإيجابيات، لقد أنجبت طفلا جميلا ويشبهها تماما، على العموم إنكِ في غضون ساعات قلائل ستردين عافيتكِ ما إن تنهي هذه الأدوية”.
خرجت من المستشفى ولأول مرة بكل حياتي والدتي تحتضنني بهذه الشدة، كان عزائنا الوحيد الصغير “محمد”، قررت العمل لأجله ومن أجل والدتي، وبالفعل عملت بجهد وباليوم ما يقارب الأربة عشرة ساعة وأنا أعمل، كان هدفي الوحيد توفير كل احتياجات والدتي وابني الصغير، نعم فمنذ أن رأيته لم أعتبره إلا ابنا لي.
كان لنا بمثابة تعويض الله سبحانه وتعالى عن فقد أختي الجميلة، أخذت عهدا على نفسي أن أربيه وأنشئه كما تمنت وأكثر من ذلك، وأن أجعله عملها الصالح الممتد لها في الحياة، هذه حكمة الله من نجاته (الطفل الصغير).
وبعد عام من وفاتها، وجدت والدتي تجلس بجواري…
والدتي: “لقد جاءكِ عريس”.
ضحكت لا إراديا: “أماه أنسيتي أنني لا أصلح للزواج، فالحمد لله رضاني ربي وجعلني أما بلا زوجا، ولم أحرم من كلمة ماما ولا من مسئولية كل أم تجاه أبنائها”.
والدتي: “سامحيني يا ابنتي، كنت دائما أوبخكِ على شيء ليس لكِ يد به، وكأنني أعاقبكِ ونسيت تماما قضاء الله وقدره؛ يا ابنتي اسمحي له بالرؤية الشرعية فقط، وصلي صلاة استخارة واتركِ باقي الأمر لله وحده”.
وبالفعل كان العريس نفس الدكتور الذي قابلته بالمستشفى، تزوجنا بعد شهر واحد، وكانت مفاجأة القدر تبين حكمة الله سبحانه وتعالى، عندما تأخرت في الإنجاب أقنعته بالذهاب للطبيب، وقد أخبرني بأنني عاقر لا أنجب، لقد كان زوجي نعم الزوج، عندما وجدني حزينة أخبرني: “ألا ترضين بقضاء الله وقدره؟!؛ لقد وهبكِ الله بالفعل ابنا، ابن أختي الراحلة وكأن الله سبحانه وتعالى يريدني أن أتفرغ لرعايته وتربيته وأعيش على ذكراها الطيبة.
اقرأ أيضا:
قصص وعبر لمن يعتبر بعنوان “سامحكِ الله يا أمااه” الجزء الأول
قصص وعبر لمن يعتبر بعنوان “سامحكِ الله يا أمااه” الجزء الثاني
قصص وعبر عن الأم بعنوان “أنتظر الجزاء من رب العباد” الجزء الأول
قصص وعبر عن الأم بعنوان “أنتظر الجزاء من رب العباد” الجزء الثاني والأخير
3 قصص وعبر عن الحب حقيقية وممتعة جدا