اشتهر العرب قديما بالذكاء الخارق وبلاغة القول وشدة الحكمة، بقيت حكمتهم وأقوالهم البليغة حتى يومنا هذا، حيث توارثناها وحفظنها من الزوال، ولكن يبقى الأهم وهو أن نعمل بحكمتهم لا لنحفظها بألسنتنا بل نحولها لأفعال تعمل بها جوارحنا، وحقا ضعنا يوم فرطنا في سنن آبائنا وأجدادنا الأولين واشتغلنا بأمور الدنيا التافهة والتي بلا معنى بكل ما حمله الكلمة من معنى.
قصـــــــــــــة الملك وبائع الحكمة
بيوم من الأيام ذهب والي البلاد للسوق متنكرا في زي تاجر يريد شراء بعض الأشياء، وبالفعل أخذ يتجول يمينا ويسارا ليميز الأشياء الثمينة بالسوق والتي يمكنه شرائها، واكن هناك شيئا ما أدهشه ولفت كل انتباهه، لقد كان محل قديم الطراز للغاية وبالكاد توجد به أشياء قديمة أيضا تباع، وعندما اقترب أكثر وجد رجلا عجوزا يجلس على كرسي مهترئ.
اقترب منه وسأله قائلا: “ما الذي تبيعه؟!”
فرد عليه العجوز بكل ثقة بنفسه: “إنني أبيع أثمن الأشياء والتي لن تجدها ولو بحثت بكل السوق”.
تعجب الوالي من ثقته التي يتحدث بها، لقد كانت ثقة مطلقة للغاية، وبالكاد حبس ابتسامته حيث اعتقد أن الرجل من كثرة كبره بالسن قد فقد عقله أو ما شابه ذلك، فالسوق بالخارج مليء بكل ما يسر العين، أما عن محله فبالكاد توجد بداخله لوحتين، ويخبر بأن لديه أثمن الأشياء وأغلاها، فكيف يعقل ذلك؟!
ومن كثرة حب الوالي للفضول أخذ يجاري العجوز في الحديث فطلب منه: “أرنا أثمن الأشياء التي لديك والتي لا يمكنني أن أجد مثيلها بالأسواق مهما بحثت”.
أخرج العجوز لوحة مليئة بالغبار الكثيف، ووضعها أمام الوالي، والذي تعجب كثيرا من كثرة الغبار وكيف يقدمها له بهذه الطريقة، أمسك بقطعة قماش وشرع في تنظيفها، وإذا به يقرأ مكتوب عليها “فكر قبل أن تعمل”.
الوالي: “وكم ثمنها إذا”.
العجوز: “كما أخبرتك سالفا أنني أملك أشياء لا تقدر بثمن بخلاف ما بالسوق خارجا، فكل شيء به يقدر بثمن؛ إن هذه القطعة التي بيدك تقدر عندي بعشرة آلاف دينار”.
تأكد حينها الوالي أنه رجل فقد عقله كاملا، وكيف لإنسان أن يشتري مثل لوحته بكل هذا القدر من المال؟!
سايره في المبلغ رغبة في مخاطبته أكثر من ذلك وبدافع الفضول أيضا وليس تقديرا لما يبيعه، ولكن العجوز لم ينقص من المال شيئا لدرجة أن الوالي جعل له المبلغ يصل لتسعة آلاف دينار، ولكن العجوز أصر على رأيه أيضا وكان كل حديثه مثقل بالثقة بالنفس والثبات، مضى الوالي في طريقه وكانت منتظرا من العجوز أن ينديه ليأخذ منه التسعة آلاف ويعطيه اللوحة والتي لا يمكن لها أن تصل لكل ذلك المبلغ، ولكن العجوز عاد وجلس مكانه على الكرسي المهترئ كعادته.
جال الوالي بالسوق وخطر بباله أن يفعل شيئا ما، ولكن هذا الشيء كان ليقلل من قيمته في نظر الآخرين، تذكر حينها على الفور الجملة التي قرأها بمحل العجوز “فكر قبل أن تفعل”، فتراجع عما بدر بذهنه حينها.
وعلى الفور عاد للعجوز ودفع المبلغ كاملا يريد شراء اللوحة، ولكن العجوز قبل أن يبيعها له اشترط عليه شرطها في غاية الضرورة والأهمية حتى يبيعه لوحته، وهو أن يكتب هذه الحكمة بأكثر من موضع بمنزله، وبالفعل وعده الوالي بذلك، لم يكن حينها أحد يعلم بحقيقة هويته وأنه الوالي على البلاد.
أول ما رجع لقصره استدعى بعض النقاش ليقوموا بكتابتها بأكثر من موضع، وذات يوم تحالف حلاق الوالي مع قائد حراسه على قتل الوالي بعدما أغراه قائد الحراس بكل ما يمكن لأحد أن يغرى به.
وبالفعل أعد الحلاق العدة ولكنه أول ما وصل لقصر الوالي وجد مكتوب على باب القصر “فكر قبل أن تفعل”، فاضطرب قليلا ولكنه مازال مصر على نيته السوداء تجاه الوالي، وعندما دخل وجد نفس الجملة مكتوبة على البساط، ومن بعدها وجدها أيضا مكتوبة على ملابس الوالي، حاول إبعاد نظره عنها ولكنها ما إن نظر بعينيه بعيدا على الحائط المواجه وكان على وشك ذبح الوالي وجد اللوحة الأصلية بوجهه، انهار من البكاء وانتحب وبعدها اعترف بكل شيء، عاقب الوالي قائد حراسه وكل أتعابه على خيانتهم بأن أنهى حياتهم جميعا، ولكنه عفا عن الحلاق.
وعندما سأله الوالي عن سبب رجوعه على آخر اللحظات من فعل ما كان ينوي عليه، أجابه قائلا: “فكر قبل أن تفعل يا مولاي، لقد رأيتها بكل مكان ومهما حاولت تجنب رؤيتها إلا أنني أراها”!
ذهب الوالي للمحل للقاء العجوز ومكافئته ولكنه وجده مغلقا، وعندما سأل عن صاحبه وجده قد توفي.
اقرأ أيضا:
قصص وعبر واقعية قصيرة هادفة وفي منتهى الروعة
قصص وعبر وحكم يوتيوب لن تندم مطلقا على قراءتها!
3 قصص وعبر نهاية الظالمين حقيقية مؤلمة