اليوم بمشيئة الله تعالى نسرد لكم قصة مجاهد مجاهر كما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع صحابى جليل بايع على الموت ومعه أربعمائة صحابى بايعوا معه على ذلك ، والنبى حياه عندما جاء للإسلام فقال ( مرحبا بالراكب المهاجر ، مع الصحابى الجليل عكرمة بن أبى جهل رضى الله عنه .
كان في أواخر العقد الثالث من عمره يوم صدع نبي الرحمة بدعوة الهدى و الحق ، وكان من أكرم قريش حسبا وأكرمهم مالا و أعزهم نسبا وكان جديرا به أن يسلم كما أسلم نظراؤه من أمثال سعد بن أبي وقاص و مصعب بن عمير و غيرهما من أبناء البيوتات المرموقة في مكه لولا أبوه .
فمن هو هذا الأب يا ترى ؟ إنه جبار مكة الأكبر ، و زعيم الشرك الأول وصاحب النكال الذي امتحن الله ببطشه إيمان المؤمنين فثبتوا واختبر بكيده صدق الموقنين فصدقوا إنه أبو جهل وكفى هذا أبوه ، أما هو فعكرمة بن أبي جهلٍ المخزومي ، أحد صناديد قريش المعدودين وأبرز فرسانها المرموقين .
وجد عكرمة بن أبي جهل نفسه مدفوعا بحكم زعامة أبيه إلى مناوأة محمدٍ عليه الصلاة و السلام ، فعادى الرسول صلى الله عليه وسلم أشد العداء و آذى اصحابه أفدح الإيذاء وصب على الإسلام و المسلمين من النكال ماقرت به عين أبيه ولما قاد أبوه معركة الشرك يوم بدر و أقسم باللات و العزى ألا يعود إلى مكة إلا إذا هزم محمداً ، نزل ببدر وأقام عليها ثلاثا ينحر الجزور ويشرب الخمور ، وتعزف له القيان بالمعازف .
ولما قاد أبو جهل هذه المعركة كان ابنه عكرمة عضده الذي يعتمد عليه ويده التي يبطش بها ولكن اللات و العزى لم يلبيا نداء أبى جهل لأنهما لايسمعان ولم ينصراه في المعركة لأنهما عاجزان ، فخر صريعا دون بدر ، و رآه ابنه عكرمة بعينيه ورماح المسلمين تنهل من دمه ، وسمعه بأذنيه وهو يطلق آخر صرخةٍ انفرجت عنها شفتاه .
عاد عكرمه إلى مكة بعد أن خلف جثة سيد قريش في بدر فقد أعجزته الهزيمة عن أن يظفر بها ليدفنها في مكة وأرغمه الفرار على تركها للمسلمين فألقوها في (القليب) وهو بئر ألقيت فيه جثث المشركين ، مع العشرات من قتلى المشكرين و أهالوا عليها الرمال .
ومنذ ذلك اليوم أصبح لعكرمة بن أبي جهل مع الاسلام شأن آخر ، فقد كان يعاديه في بادئ الأمر حميّة لابيه ، فأصبح يعاديه اليوم ثأرا له ومن هنا انبرى عكرمة ونفر ممن قُتِل آباؤهم في بدر يوقدون نار العداوة في صدور المشركين على محمدٍ صلى الله عليه وسلم ويضرمون جذوة الثأر في قلوب الموتورين وهم أهل الثأر من قريش .
حتى كانت وقعة أحد خرج عكرمة بن أبي جهل إلى أحد و أخرج معه زوجه أم حكيم لتقف مع النسوة الموتورات في بدر وراء الصفوف ، وتضرب معهن الدفوف تحريضا لقريش على القتال ، وتثبيتا لفرسانها إذا حدثتهم أنفسهم بالفرار وجعلت قريشا على ميمنة فرسانها خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمه بن أبي جهل وأبلى الفارسان المشركان في ذلك اليوم بلاء رجح كفة قريش على محمدٍ وأصحابه .
وحقق للمشركين النصر الكبير مما جعل أبا سفيان يقول هذا بيوم بدر وفي يوم الخندق حاصر المشركون المدينة أياما طويله فنفد صبر عكرمة بن أبي جهل وضاق ذرعا بالحصار ، فنظر إلى مكانٍ ضيق من الخندق وأقحم جواده فيه فاجتازه ثم اجتازه وراءه بضعة نفر في أجرإ مغامرةٍ ذهب ضحيتها عمرو بن عبد ود العامري .
أما هو فلم ينجه إلا الفرار وفي يوم الفتح رأت قريش أن لا قبل لها بمحمدٍ و أصحابه ، فأزمعت أى قررت أن تخلي له السبيل إلى مكة ، وقد أعانها على اتخاذ قرارها هذا ماعرفته من أن الرسول عليه الصلاة و السلام أمر قواده ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم من أهل مكة .
لكن عكرمة بن أبي جهل ونفراً معه خرجوا على إجماع قريش ، وتصدوا للجيش الكبير ، فهزمهم خالد بن الوليد في معركةٍ صغيرة قتل فيها من قتل منهم ولاذ بالفرار من أمكنه الفرار ، وكان في جملة الفارين عكرمة بن أبي جهل عند ذلك أُسقِط أى ندم وتحير عكرمة فمكة نبت به أى لم يبقى له فيها قرار بعد أن خضعت للمسلمين والرسول صلوات الله عليه عفا عما سلف من قريش تجاهه .
لكنه استثنى منهم نفرا سماهم وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة وكان في طليعة هؤلاء النفر عكرمة بن أبي جهل لذا تسلل متخفيا من مكة ويمم وجهه شطر اليمن إذ لم يكن له ملاذ إلا هناك عند ذلك مضت أم حكيم زوج عكرمة بن أبي جهل وهند بنت عتبة إلى منزل رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ومعهما عشر نسوة ليبايعن النبي عليه السلام .
فدخلن عليه وعنده اثنتان من أزواجه وابنته فاطمة ونساء من نساء بني عبد المطلب ، فتكلمت هند وهي متنقبه وقالت : يا رسول الله ، الحمدلله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه ، واني لأسالك أن تمسني رحمك بخير أى تحسن معاملتي لما بينى وبينك من من قرابة ، فإني امرأة مؤمنة مصدقة .
ثم كشفت عن وجهها وقالت : هند بنت عتبه يا رسول الله فقال لها الرسول عليه الصلاة والسلام : ( مرحبا بك ) فقالت : والله يا رسول الله ماكان على وجه الأرض بيت أحب إليّ أن يذل من بيتك ، ولقد أصبحتُ وما على وجه الأرض بيت أحب إلي أن يعز من بيتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : و زيادة أيضا .
ثم قامت أم حكيم زوج عكرمة بن أبي جهل فأسلمت وقالت : يارسول الله ، قد هرب منك عكرمة إلى اليمن خوفا من أن تقتله فأمنه أمنك الله ، فقال عليه السلام : هو آمن فخرجت من ساعتها في طلبه ومعها غلام لها رومي ، فلما أوغلا في الطريق راودها الغلام عن نفسها ، فجعلت تمنيه وتماطله حتى قدمت على حي من العرب فاستعانتهم عليه فأوثقوه وتركوه عندهم .
ومضت هي إلى سبيلها حتى أدركت عكرمة عند ساحل البحر في منطقة (تهامة) وهو يفاوض نوتيا ً أى بحار مسلما على نقله والنوتي يقول له : أخلص حتى أنقلك ، فقال له عكرمة : وكيف اخلص؟ قال : تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
فقال عكرمة : ماهربت إلا من هذا وفيما هما كذلك إذ أقبلت أم حكيم على عكرمة وقالت : يا ابن عمّ ، جئتك من عند أوصل الناسِ وأبر الناسِ وخير الناسِ من عند محمدٍ بن عبدالله وقد استأمنت لك منه فأمنك فلا تهلك نفسك ، فقال : أنت كلمته؟ قالت : نعم ، أنا كلمته فأمنك ومازلت به تؤمنه وتطمئنه حتى عاد معها .
ثم حدثته حديث غلامها الرومي فمر به وقتله قبل أن يسلم وفيما هما في منزلٍ نزلا به في الطريق أراد عكرمة أن يخلو بزوجه ، فأبت ذلك أشد الإباء ، وقالت : إني مسملة وأنت مشرك ، فتملكه العجب وقال : إن أمرا يحول دونك ودون الخلوة بي لأمر كبير .
فلما دنا عكرمة من مكة ، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه : (سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه ، فإن سب الميت يؤذي الحي ولايبلغ الميت) وماهو إلا قليل حتى وصل عكرمة و زوجه إلى حيث يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه النبي صلوات الله عليه وثب إليه من غير رداء فرحا به .
ولما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عكرمة بين يديه وقال : يا محمد إن أم حكيم أخبرتني أنك امنتني فقال : النبي عليه الصلاة والسلام : ( صدقت ، فأنت آمن ) فقال عكرمة : إلامَ تدعوا يا محمد ؟ قال : ( أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله ، و أني عبدالله ورسوله ، وأن تقيم الصلاة ، و أن تؤتي الزكاة.. ) حتى عدّ أركان الإسلام كلهافقال عكرمهة : والله ما دعوت إلا إلى الحق ، وما أمرت إلا بخير .
ثم أردف يقول : قد كنت فينا والله قبل أن تدعوا إلى مادعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا برا ، ثم بسط يده وقال : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك عبده ورسوله ، ثم قال : يارسول علمني خير شيء أقوله فقال : ( تقول : اُشهد الله ، و اُشهد من حضر أني مسلم مجاهد مهاجر ) .
فقال عكرمه ذلك عند هذا قال له الرسول صلوات الله عليه : ( اليوم لاتسألني شيئا أعطيه أحد إلا أعطيتك إياه ) فقال عكرمة : إني أسألك أن تستغفر لي كل عدواةٍ عاديتكها ، أو مسيرٍ أوضعت فيه ، أو مقامٍ لقيتك فيه ، أو كلامٍ قلته في وجهك أو غيبتك فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : اللهم اغفر له كل عداوةٍ عادانيها ، وكل مسيرٍ سار فيه إلى موضعٍٍ يريد به إطفاء نورك و اغفر له ما نال من عرضي في وجهي أو أنا غائب عنه ) .
فتهلل وجه عكرمة بشرا وقال : أما والله يا رسول الله ، لا أدع نفقة أنفقتها في صد عن سبيل الله لا أنفقت ضعفها في سبيل الله ولا قتالا قاتلته صدا عن سبيل الله إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله ومنذ ذلك اليوم انضم إلى موكب الدعوة فارسٌ باسلٌ في ساحات القتال ، عبادٌ قوامٌ قراءٌ لكتاب الله في المساجد .
فقد كان يضع المصحف على وجهه ويقول : كتاب ربي كلامي ربي وهو يبكي من خشية الله بر عكرمة بما قطعه للرسول صلى الله عليه وسلم من عهد ، فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا وخاضها معهم ، ولا خرجوا في بعثٍ إلا كان طليعتهم .
وفي يوم اليرموك أقبل عكرمة على القتال إقبال الظامىء على الماء البارد في اليوم القائظ ولما اشتد الكرب على المسلمين في أحد المواقف ، نزل عن جواده وكسر غمد سيفه و أوغل في صفوف الروم ، فبادر إليه خالد بن الوليد وقال : لا تفعل ياعكرمة ، فإن قتلك سيكون شديد على المسلمين .
فقال : إليك عني يا خالد فلقد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة ، أما أنا و أبي فقد كنا من أشد الناس على رسول الله فدعني أكفر عما سلف مني ، ثم قال : لقد قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة وأفِر من الروم اليوم إن هذا لن يكون أبدا .
ثم نادى في المسلمين : من يبايع على الموت ؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام ، وضرار بن الأزور في أربعمائةٍ من المسلمين فقاتلوا دون فسطاط خالد رضي الله عنه ( الفسطاط : بيت من الشعر والمراد به مكان قيادة الجيش ) أشد القتال و ذادوا عنه اكرم الذود .
ولما انجلت معركة اليرموك عن ذلك النصر المؤزر للمسلمين كان يتمدد على أرض اليرموك ثلاثة مجاهدين اثخنتهم الجراح هم ، الحارث بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، فدعا الحارثُ بماءٍ ليشربه فلما قُدّم له نظر إليه عكرمة ، فقال : ادفعوه إليه فلما قرّبوه منه نظر إليه عياش ، فقال : ادفعوه إليه فلما دنوا من عياش وجدوه قد قضى نحبه ، فلما عادوا إلى صاحبيه وجدوهما قد لحقا به .
رضي الله عنهم أجمعين وسقاهم من حوض الكوثر شربة لايظمأون بعدهاوحباهم خضراء الفردوس يرتعون فيها ابدا .