قصص صغير السرد عظيم الفائدة المحتوى بها
إذا أحب الله سبحانه وتعالى عبداً اصطنعه لنفسه، فشغل همه به ولسانه بذكره وجوارحه بخدمته؛ ومن أصلح سريرته فاح عبير فضله وعبقت القلوب بنشر طِيبه، فالله الله في السرائر؛ إن طاف بك طائف من هم فالجأ إلى الله وامنح غيرك معروفاً.. أطعم جائعاً، عد مريضاً تجد راحة وأنساً. وتذكر دوما أن من عرف الله هانت مصيبته، ومن أنس به زالت غربته ومن رضي بالقضاء سعد دوما ولم يشقى أبد ما حيي.
القصــــــــــــــة الأولى:
قصة رجل حجت عنه الملائكة الكرام، من قصص صغير السرد عظيم الفائدة المحتوى بها…
وصفه “الذهبي” في كتابه سير الأعلام بأنه “عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته، العابد الزاهد، السخي الشجاع، أحد فقهاء الأعلام”؛ إنه (عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي) والذي كانت ولادته في عام مائة وثمانية عشر هجريا، عاصر التابعين وتلقى العلم على أيديهم واشتغل بالتجارة، أما عن أبرز أعماله لله سبحانه وتعالى فقد كان ينفق على إخوانه المسلمين ويقوم بتجهيزهم للذهاب لأداء فريضة الحج.
وقد قيل في شأنه: (ما رأت عيناي مثل أربعة، ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري، ولا أشد تقشفا من شعبة، ولا أعقل من مالك بن أنس، ولا أنصح للأمة من عبد الله بن المبارك)؛ وقال “سفيان الثوري” في شأنه: (إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل عبد الله بن المبارك، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام).
وقد كانت عادته أنه يلزم بيته على الدوام بطريقة جعلت كل من حوله يتعجبون منه، وفي يوم من الأيام سأله بعض الناس: “ألا تستوحش يا عبد الله؟!”، فأجابهم قائلا: “وكيف أستوحش وأنا مع النبي صلَّى الله عليه وسلم ومع الصحابة”.
وفي أحد الأعوام أراد الخروج للحج، وبينما خرج ليودع إخوانه في الله وأقربائه رأى امرأة تنبش في القمامة حتى وجدت دجاجة ميتة فحملتها ورحلت، فتعجب “عبد الله بن المبارك” من أمرها ومن فعلتها، نادى عليها وقال لها ناهيا إياها عن أكل الميتة، قال تعالى في كتابه العزيز (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ).
فأجابت عليه المرأة بقطع قائلة: “اترك الخلق للخالق، فلله سبحانه وتعالى له في خلقه شئون”، ولكنه عبد الله بن المبارك أبى أن يدعها فقال لها: “ناشدتكِ بالله تعالى أن تخبريني بأمركِ”.
فأجابته المرأة مضطرة: “أما وقد أقسمت علي بالله سبحانه وتعالى فلأخبرنك بأمري، إن الله قد أحل لنا الميتة فأنا أرملة فقيرة معدمة أما لأربع بنات، ولا يوجد من يكفلنا، وطرقت أبواب الناس فلم أجد للناس قلوبا رحيمة، فخرجت ألتمس لبناتي اللاتي يحترقن من شدة الجوع عشاءً، فرزقني الله هذه الميتة، أفمجادلني أنت فيها؟!”
فما كان من “عبد الله بن المبارك” إلا أن سكب الدموع، وقال لها: “خذي هذه الأمانة”، فأعطاها المال الذي كان بحوزته كله، وعاد من بيته إلى منزله ولازمه طوال فترة الحج بأكمله.
وعندما انتهت رحلة الحج وعاد الحجاج، ذهبوا في زيارة لبيت “عبد الله بن المبارك”، وقالوا: “رحمك الله يا ابن المبارك، فما جلسنا بمجلس إلا وأعطيتنا مما أعطاك الله من العلم، ولا رأينا خيرا منك في تعبدك لخالقك في هذا الحج”.
فأصابته الدهشة والعجب من قولهم، فكيف ذلك وهو لم يذهب للحج ولم يفارق منزله من الأساس؟!، وفي نفس الليلة رأى بمنامه رجلا يشرق النور من وجهه يقول له: (السلام عليك يا عبد الله، ألست تدري من أنا؟!، أنا محمد رسول الله، أنا حبيبك في الدنيا وشفيعك في الآخرة، جزاك الله عن أمتي خيراً، يا عبد الله لقد أكرمك الله كما أكرمت أم اليتامى، وسترك كما سترت اليتامى”.
القصـــــــــــة الثانيــــــــــة:
قصة شيخ الإسلام “ابن تيمية”، من قصص صغير السرد عظيم الفائدة المحتوى بها…
ولد شيخ الإسلام “ابن تيمية” بمدينة حيران في عام ستمائة وواحد وستين هجريا، سافر لدمشق هربا من التتار، فقد كان آنذاك زمانا عصيبا للغاية، إذ أن المغول قاموا بإحراق بغداد فصارت الخلافة العباسية رمادًا، وأصعب ما كان آنذاك الفتن والابتلاءات التي صارت تفرق بين المسلمين، والصليبيون الذين أغاروا على بلاد الشام.
تلقى تعليمه بجامع دمشق العظيم، والذي حفظ فيه القرآن الكريم والحديث، وسمع من كبار المشايخ، كما قام بدراسة اللغة العربية والرياضيات؛ وقد كان طفلا سريع البديهة للغاية تلين له العلوم فيفهمها ويتقنها ويطوعها كيفما شاء، وعندما اشتد عوده واستوى وبلغ به العمر الحادي والعشرين عاما، جلس على كرسي التعليم بجامع دمشق العظيم خلفا لوالده، ولم يلبث طويلا حتى بات إماما يشهد له كل من حوله بالتقى والجرأة؛ وبينما كان يلقن العلم كانت الشبهات والتفرقات بين المسلمين تزداد وتحتد من حوله، والمسلمون ينقسمون بين متصوف ومتشيع، وهناك من المسلمين من فتكت بهم الأمراض من شدة الحزن على أمر المسلمين، ولكن اشتد عضد “ابن تيمية” فصار مدافعا عن نصرة الدين وإعلائه بلسانه وقلمه.
فامتلأت الدنيا بخبره، فكان يأمر المسلمين بالمعروف وينهاهم عن المنكر، يؤثر المسلمين على نفسه على الرغم من كونه لا يمتلك من متاع الدنيا، وكان يكتب ناصحا ومفسرا ومؤلفاته فاق عددها الثلاثمائة؛ وشيخ الإسلام “ابن تيمية” هو القائل: (إن الله سبحانه وتعالى ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة).
وقد سجن “ابن تيمية” بسبب فتاويه مرات عديدة بمصر ودمشق، أما عن سجنه الأخير فكان بالقلعة بسبب افتائه بحرمة شد الرحال إلى قبور الأنبياء، وقد كتب من سجنه متسائلا: (ماذا يفعل أعدائي بي؟!، جنتي وبستاني في صدري، حبسي خلوة ونفيي سياحة، وقتلي شهادة).
توفي “ابن تيمية” في العشرين من ذي الحجة عام سبعمائة وثمانية وعشرين هجريا، ففاضت الشوارع بالأناس وكانت جنازة مهيبة لعالم مجاهد.
واقرأ أيضا عزيزنا القارئ:
قصص وعبر إسلامية يوتيوب لن تصدقها بعنوان رفضت النزول لقبرها!