قصص طويلة بعنوان من يصلح الملح إذا الملح فسد؟!
كل قصة تحمل في طياتها الكثير من العبر والفائدة، ولا يمكننا الوقوف على القراءة وحسب ولكن علينا أن نغنم بالفائدة التي بطياتها ونجعلها بقرارة أنفسنا طالما حيينا، فكل قصة تحمل عصارة تجارب أناس آخرون.
ونادرا ما تجد خلو قصة من الزمن الجميل من العبرة وراءها، كل ما عليك انتقاء ما تقرأ بعناية فائقة والعمل بما فيه.
القصة وراء المقولة الشهيرة (من يصلح الملح إذا الملح فسد):
وراء هذه المقولة قصة في غاية الجمال والروعة، قصة ستذكرها أبد ما حييت وتخلق لها الفرصة لذكرها بكل مجالسك، قصة بها مغزى ما أجمله ولا أروعه، قصة جميلة من سلسلة قصص طويلة…
يروى أنه بيوم من الأيام تزوج رجل بفتاة من نفس قبيلته ذات خلق وأدب ودين وجمال غالٍ نفيس، سكنا نفس القرية وعاشا حياة هادئة سعيدة لا تشوبها شائبة، ولازال سعيدين بقربهما ولم ينغص عليهما طيب العيش وهناء الحياة إلا حينما نشب خلاف بين عائلة الزوج وعائلة أخرى بنفس القرية، وكان نتاج الخلاف المريع أن توفي رجلا من العائلة الأخرى، وصدر حكما بالنفي على الزوج، ولم يكن أمامه خيار آخر إلا الرحيل عن قريته، فأخذ زوجته ورحلا إلى قرية أخرى بعيدة، وقد اصطفاها بعناية وتأكد أنها ستكون بعيدة كل البعد عن العيون والألسنة مثل بعدها عن قريتهما وربما أكثر.
وبالقرية الجديدة اندمج الرجل مع أهلها سريعا، وأصبح عاديا للجميع أن يرى على الدوام بمجلس شيخ القرية حيث يجتمع الرجال ولاسيما علية القوم ليتسامروا ويتشاوروا فيما بينهم، والرجل نفسه كان معروفا بمكانته العالية وأخلاقه ورجاحة عقله؛ كان يلقى احتراما كبيرا وتبجيلا من كل من حوله، ولمست السعادة قلبه مجددا ولكنه لم يكن يعلم حينها أن شيئا آخر ينتظره!
كان لشيخ القرية الجديدة نفوذا وسلطة، وكان يحظى بحب الناس من حوله واحترامهم، وبيوم من الأيام بينما كان مارا من أمام منزل الرجل لمح زوجته من بعيد وافتتن بجمالها الفائق، ولحظتها تسللت إلى عقله أفكارا شيطانية أتبعها بفعل شنيع، بات يخطط ويعد العدة لينفرد بها وينال مبتغاه، فأرسل زوجها مع بعض الرجال في مهمة غاية في الأهمية، أرسلهم للتأكد من وجود قطعة أرض بعيدة جميلة يقال عنها بأنها خضراء تصلح للزراعة ورعي الأغنام، وكانت تبعد مسافة ثلاثة أيام للذهاب وثلاثة أيام مثلهن للإياب.
لم يرفض الرجل طلبا لشيخ القرية فانطلق في الرحلة غير مدركا لما يخطط ويحاك من خلف ظهره، وأن هناك من يسهر الليالي ليدبر خططا للإيقاع به وبزوجته؛ وفي الليلة نفسها التي شد فيها الرجل رحاله تسلل شيخ القرية لمنزله مستغلا غيابه، وقبيل أن يصل لزوجته ارتطم بشيء ما فأصدر صوتا متوجعا، فأفاقت الزوجة من نومها وصاحت بأعلى صوتها: “من بالمنزل؟!”
فأجابها شيخ القرية بصوت منخفض: “أنا شيخ العرب، لقد أذهلني جمالكِ في المرة الوحيدة التي رأيتكِ بها، لقد سلبتِ عقلي وقلبي، ولا أريد بهذه الحياة سوى قربكِ ووصالكِ”.
لم يبدو على الزوجة الخوف، ردت عليه في توها بثبات وذكاء قائلة: “إنني لا أمانع ولكن بشرط واحد، وهو أن تحل لي هذا اللغز، يا شيخ العرب إننا نضع الملح على اللحم ليحفظه من الفساد، فماذا نفعل إذا فسد الملح نفسه؟!، ولك أن تطلب العون ممن شئت، وفي حالة جئتني بالحل صرت لك كما تريد”.
تخلل الارتباك شعوره وفكر مليا ولكنه رد عليها قائلا: “حسنا أمهليني حتى الغد آتيكِ بالحل”.
قضى شيخ القرية الليلة بأكملها يفكر في حل للغز ولكن دون جدوى، وفي صباح اليوم التالي جمع رجال القرية من يتسمون بالحكمة والذكاء بمجلس وطرح عليهم اللغز، وعلى الرغم من الوقت الذي استغرقوه في التفكير إلا إنهم لم يجدوا حلا أيضا، وحتى أنهم حينما حاولوا لم يقدموا حلولا مقنعة يقبل بها عقل!
كان بالمجلس رجل حكيم التزم الصمت طوال المجلس وظل يراقب حديث شيخ القرية، وبعدما انتهى المجلس الذي عقده شيخ القرية وانفض الرجال من حوله، اقترب منه الحكيم وسأله بهدوء: “من قال لك هذا اللغز؟!”
فارتبك الشيخ وبات واضحا على ملامحه إصراره على التماسك، وقال: “ولكنك ما وجدت حلا له”!
فقال الحكيم: “لقد آثرت أن أحدثك على انفراد، فأصل اللغز بيت من الشعر، وقاله أبو سفيان الثوري وبيت الشعر (يا رجال العلم يا ملح البلد.. من يصلح الملح إذا الملح فسد؟!)”
ابتسم الحكيم ابتسامة خفيفة وقال لشيخ القرية: “قائل اللغز شخص يحتمي بك ولكنك خذلته، وهو شخص ذو دين وعلم وأخلاق فضلى؛ لا يستطيع إجابة طلبك لأن أخلاق ودينه يمنعانه، واللغز ما هو إلا تذكير لك بأنك حامي القبيلة ومرجعها، ولكن من يحمي القبيلة إذا الحامي نفسه فسد؟!”
كل ذلك وشيخ القرية يستمع بإمعان ولم يطرف له جفن، فأردف الرجل الحكيم قائلا: “وإن لم يخب ظني إنك قد راودت امرأة عالية المقام والذكاء والدين والعلم وسامية الأخلاق عن نفسها، فابتغت أن تصدك عنها وألا تفضحك، رغبت أن تكسبك كأخ لها ولا تخسرك وتزيد بذلك أعدائها وأعداء أهلها عدوا بمقامك ومقدارك، أرادت أن تحفظ بعلها إن غاب عنها وإن حضر، لذا قالت لك ما قالت، وكأنها تريد أن تقول لك ولكل من سمعك.. يا رجال العرب يا ملح البلد.. من يصلح الملح إذا الملح فسد؟!
إنها تقصد أن الرجل من أهل القبيلة إذا أفسد أصلحه شيخ القبيلة كما يصلح الملح اللحم، ولكن من يصلح شيخ القبيلة إذا الشيخ نفسه فسد؟!”
كانت كلمات الرجل الحكيم كافية لإيقاظ شيخ القرية وإيقاظ قلبه النائم، أصابه الخجل من فعلته الشنيعة، وقال للحكيم: “لقد أصبت في كل كلمة قلتها أيها المبجل، فاستر علي فعلتي سترك الله في الدنيا والآخرة”.
عاد الشيخ عن مخططاته كما أنه عاد لصوابه ورشده، وقرر أن يعود شيخا عادلا بين قومه.
اقرأ مزيدا من قصص طويلة بسلاسلها المتميزة من خلال:
قصص طويلة بعنوان رحلة من الزواج وحتى الانفصال!
وأيضا/ قصص طويلة بعنوان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان
قصص طويلة بعنوان الحب في أسمى صوره